( نصُّ القصيدة )
مضَى شِرَاعي بِمَا لا تَشتهِي رِيحِي
وفَاتَنِي الفِجْرُ إذْ طالَتْ تَرَاوِيحِي
أَبْحَرْتُ تَهوِي إلى الأعماقِ قَافِيَتِي
ويَرْتقِي في حِبالِ الرِّيحِ تَسْبِيحِي
مُزمَّلٌ فِي ثِيَابِ النُّورِ مُنْتَبِذٌ
تِلْقَاءَ مَكَّةَ أَتْلُو آيَةَ الرُّوحِ
واللَّيلُ يَعْجَبُ منِّي ثُمَّ يَسْأَلنُِي
بوابَةُ الرِّيحِ! مَا بوابةُ الرِّيحِ؟
فَقُلْتُ والسَّائِلُ الليليُّ يَرْقُبُنِي
والوِدُّ مَا بينَنَا قَبْضٌ مِنَ الرِّيحِ
إلَيكَ عَنِّي فَشِعْرِي وحْيُ فَاتِنَتِي
فَهْيَ التي تَبْتَلِي وهيَ التي تُوحِي
وهيَ التي أَطْلَقَتْنِي فِي الكرَى حُلُماً
حتَّى عَبَرْتُ لهَا حُلمَ المَصَابِيحِ
فَحِينَ نامَ الدُّجَى جَاءتْ لِتَمْسِيَتِي
وحينَ قامَ الضُّحَى عادَتْ لِتَصْبِيحِي
مَا جَرَّدَتْ مُقلتاهَا غير سيفِ دَمِي
ومَا عَلَى ثغرِهَا إلاَّ تَبَارِيحِي
ومَا تَيَمَّمْتُ شَمْساً غيرَ صَادقةٍ
ولا طَرَقتُ سَماءً غيرَ مَفْتُوحِ
قَصَائدِي أَينَمَا يَنْتَابُنِي قَلَقِي
ومَنْزِلِي حَيثُمَا ألْقِي مَفاتيحِي
فَأَيّ قَولَيَّ أَحْلَى عندَ سيِّدَتِي
مَا قلتُ للنَّخلِ أَمْ مَا قُلْتُ للشِّيحِ؟
( تقدمة )
(أ) عنوان القصيدة :
( بوابة الريح ) صورة تشبيهية رامزة، فقد
أراد الشاعر أن يجعل من ( رؤيته الفنية الحداثية ) بوابه ريح تدفعُ ( التقليد والجود) . فالعنوان تعبير عن رؤيته الفنية الجامحة، ومسلكه التجديدي في إبداع الشعر، الذي
قد لا يرضى عنه الكثيرون.
ب) : الشرح:
(1) مضَى شِرَاعي بِمَا لا تَشتهِي رِيحِي وفَاتَنِي الفِجْرُ إذْ طــــــــــــــــالَتْ تَرَاوِيحِي
الشراع مجاز عن السفينة، وبقصد بها سفينة
إبداعه، فكأنما يقول: مضت سفينة إبداعي بما لم أكن أحبه ( من لوم ونقد رفض )، ومن ثمَّ
كان ( الغبنُ ) الذي استشعره في غياب إشراقة ( الفجر) على ذاته في مجتمعه، عندما أطال
( نافلة التراويح )، ووهي تجويده الفني الذي لم يكن مفروضا عليه، ولو أنه مضى مؤديًا
( فريضة التقليد )، وما ألزم نفسه بما لم يكن مُلزمًا به من ( التحديث والتجويد )،
لما كان هذا الغبنُ.
(2) أَبْحَرْتُ تَهوِي إلى الأعماقِ قَافِيَتِي
ويَرْتقِي في حِبـــــــالِ الرِّيحِ تَسْبِيـــحِي
أبحرت سفينة إبداعي، فهوت القافية ( وهي
مجاز عن شعره ) إلى الأعماق، إذ لم تكن في موضع قبول السواد الأعظم من جمهوره، لكن
في المقابل: ارتقت روحه المُقيّدة بحـــبال ( الريح = التغيير والتجديد ) . ارتقت مُسَبِّحة
مؤمنةً بما سلكته من طريق، وإن كان مرفوضا !!
وقد جعل الريح حبالا، لأنه مقيد لما تعبر
عنه من إرادة التغيير التي لا يملك فكاكا .
(3) مُزمَّلٌ فِي ثِيَــــــابِ النــــُّورِ
مُنْتَبِذٌ تِــــــــــلْقَاءَ مَكّـَةَ أَتْلُو آيَــــةَ
الرُّوحِ
في محاولة من الشاعر للتواصل مع قومه، والكشف
عن أواصر المودة، وقوة الانتماء، وإن أسيء الفهم منهم، وإن اتُّهم بالخروج عن جادة
الطريق، يقول إنه : ملتحف ثوب النور ( الشعر )، متوجه إلى ( مكة ) تال آية الروح.
ويجب أن نلاحظ أن ثمة مشاكلة بين ( الصورة
الدينية ) و صورة فنية لـ ( نبوَّة الشعر ) . فهو يستعير المعجم القرآني ( مزمِّل
)، ويجعل قبلته ( مكة ). مقيما أواصر الانتماء .
(4) واللَّيلُ يَعْجـــــَبُ منِّي ثُمَّ
يَسْأَلنُي بوابَةُ الرِّيـــــــــحِ! .. ... مَا بوابةُ الرِّيحِ؟
الليل رمز ل ( التقليد والجمود )، ومن ثمَّ
نراه متعجبا من جرأة الشاعر على اقتحام القيود التقليدية، ومتسائلا عن ( بوابة الريح
= رمز التغيير والتجديد )، ( بوابة الريح ! ما بوابة الريح ؟ ) فالليل ( رمز الجمود
) لا يفطن ولا يستوعب هذه التجربة التجديدية المستحدثة.
(5) فَقُلْتُ والسَّائِـــــلُ الليــــــليُّ
يَرْقُبُنـــــِي والوِدُّ مَا بينَنَا قَبْـــــــــــضٌ مِنَ الرِّيـــحِ
وأجاب الشاعر هذا السائل الليلي ( التقليدي
الجامد ) وهو يرقبه متلمظا، والود بينهم معندم وكأنه هباء منثور، ( قبضة ريح = كناية
عن العدم ) . وقد نلاحظ أن الشاعر استخدم هذه الكناية ( قبضة الريح ) لأنه مغرم بالموسيقا،
ومن تكرار ( الريح ) يكون النغم من ناحية، ويكون إتخام القصيدة بالصورة الكليّة التي
يعبر عنها العنوان، فتبقى في أذن الشاعر وذاكرته.
(6) إلَيكَ عَنِّي فَشِـــــعْرِي وحْيُ فَاتِنَتِي
فَهْيَ
التي تَبْتَلِــــــي وهيَ التي تُوحِـــي
وهيَ التي أَطْلَقَتْنِي فِي الكرَى حُلُماً حتَّى عَبَرْتُ
لهَا حُــــــلمَ المَصَـــــــابِيحِ
دعني أيها الليلي المُبغضُ، فما الشعر عندي
إلا وحي من فاتنة أحبها، تبتليني بمحبتها، وتوحي لي بالشعر، وتطلقني ( حلما ) يدفعني
إلى عبور حلم أكبر هو : ( حلم المصابيح) . ولعلنا نلاحظ أن ( حلم المصابيح ) صورة تشبيهية
رامزة، فمادام ( التقليد والجمود ) ظلاما فالحالم بالتغيير ، إنما هو حالم بالمصباح،
ومُهدي المصباح إليه إنما هو : ( ربة الشعر ) التي توحي إليه شعره، وتبتليه بعذابها.
ولنا أن نلاحظ أن ( الحبيبة ) – هنا – إنما هي ربة الشعر ، وملهمة القصائد، وليس من
الضرورة بمكان اعتبارها حبيبة آدمية.
(7) فَحِينَ نامَ الدُّجَى جَاءتْ لِتَمْسِيَتِي وحينَ قامَ الضُّحَى عادَتْ لِتَصْبِيحِــــي
لا نزال في سياق الحديث عن ( الحبيبة ربة
الشعر واهبة القصائد )، وهو يقول هنا إنه في رعايتها، فهي تمسيه وتصبحه.
(8) مَا جَرَّدَتْ مُقلتاهَا غير سيفِ دَمــــــِي ومَا عَلَى
ثـــــغرِهَا إلاَّ تَبَـــارِيحــــــِي
من وهج الشاعرية كان التوحد مع ربة الشعر،
( فهو : الشاعر = هي : القصيدة وربة الشعر )، وما سيفها المشرعُ إلا دماؤه، ولا بدا
على شفتيها إلا ( مشاقه ومواجعه )
(9) ومَا تَيَمَّمْتُ شَمْساً غيرَ صَادقة
ٍ ولا طَـــــرَقتُ سَمـــاءً غيرَ مَفْـــــــــــــتُوحِ
ظفر الشاعر بيقينه، وأدرك أن أحسن اختيار
طريقه – وإن عارضه المعارضون- فما كانت شمسه الشاعرة كاذبة، ولا سماؤه التي طرق أبوابه
مغلقة .
(10) قَصَائدِي أَينَمَا يَنْتَابُنــــــــــِي
قَلَقِي ومَنْزِلِي حَيــــــــــثُمَا أُلْقــــــــِي مَفاتيحـِي
وقد كان الشعر له مطاوعا، فما انتابه قلق
الإبداع إلا وواتته القصائد طوعا، وما ابتغى السكينة إلا وقد أَلِف الشعر منزلاً موفور
المفاتيح .
(11) فَأَيّ قَولَيَّ أَحْلَى عنـــدَ سيِّدَتِي
مَا قلتُ للنَّخلِ أَمْ مَا قُلْتُ للشِّيــــــحِ
؟؟
لا يزال الشاعر يؤكد أواصر القربى، ويؤكد
أن ( بوابة الريح ) التي فتحها لم تقتلعه من جذوره، ولم تشط به النوى بعيدًا عن عجاج
العشيرة، وزمرة الأهل، ووشيجة التراث، ومن ثم يقول إن كلامه كان ( للنخل ) و ( الشيح
) .. ، وهما صورة البادية التي تعكس التراث والانتماء، ومن ثم يطرح سؤاله الخاتم :
أي قول أحب لربة الشعر : قوله لهذا . أم لذاك ؟ وما ( هذا وذاك ) إلا صورتان لشيء واحد
... ، فهو – في حقيقة أمره وفي معتقده ويقينه – لا يزال ينشد شعره للبادية ( نخلا وشيحا
) ، وإن ظنه الكاشحون المبغضون من ( أبناء الليل ) مستغربا نافرا خارجا عن كل قيد
.